الجمعة، 7 يناير 2011

كن راضياً

يقول علماء النفس " إن كثيراً من الهموم والضغوط النفسية ، سببها عدم الرضا ، فقد لانحصل على ما نريد ، ولو حصلنا على ما نريد ، فقد لايعطينا ذلك الرضا التام ، الذي كنا نأمله ،، فالصورة التي كنا نتخيلها قبل الإنجاز ، كانت أبْهَى مـن الواقع ، وحتى بعد حصولنا
على ما نريد ، فإننا نظل نعاني من قلقٍ وشدةٍ ، خوفاً من زوال النعم ،، فالواجب علينا أن نَقْنَعَ بما قُسِمَ لنا من جسمٍ ومالٍ وولدٍ وسكنٍ وموهبةٍ ، وهذا منطق القران ، قال تعالى ( فخذ مآآتيتكَ وكن من الشاكرين ) " سورة الأعراف آية 144 " ،، إن غالب علماء السلف ، وأكثر الجيل الأول ، كانوا فقراء ، لم يكن لديهم أُعطياتٍ ، ولا مساكن بهيةٍ ، ولا مراكب ، ولا خَدَم ، ومع ذلك آثروا الحياة ، وأسعدوا أنفسهم والإنسانية ، لأنهم وجهوا ما أتاهم الله من خيرٍ ، في سبيله الصحيح ، فبورك لهم في أعمارهم وأوقاتهم ومواهبهم ،، ويقابل هذا الصنف المبارك ، طائفةٌ أُعْطُوا من الأموال والأولاد والنِعَم ، فكانت سبب شقائهم وتعاستهم ، لأنهم انحرفوا عن الفطرة السوية ، والمنهج الحق ، وهذا برهانٌ ساطعٌ ، يدل على أن هذه الأشياء ليست كل شيءٍ ،، انظر مثلاً لمن حمل شهاداتٍ عاليةٍ ، ستجد بعضهم نكرةً من النكرات ، في عطائه وفهمه وأثره ، بينما البعض الآخر تجد عندهم علمٌ محدودٌ ، وقد جعلوا منه نهراً متدفقاً بالنفع والإصلاح والعَمَار ، فإن كنتَ تريد أخي المسلم السعادة الحقيقية ، فارْضَ بصورتك التي ركبك الله فيها ، وارْضَ بوضعك الأُسَرِي ، وصوتك ، ومستوى فهمك ، ودخلك ،، بل إن بعض المربين الزهاد ، يذهبون لأبْعَدَ من ذلك ، فيقولون لك : ارْضَ بأقل مما أنتَ فيه ،، إليك  قصةً وعبرةً : كان في إحدى القرى ، رجلاً عجوزاً حكيماً , وكان أهل هذه القرية ، يستشيرونه في امورهم ، وفي يومٍ من الأيام , ذهب فلاحٌ للعجوز الحكيم ، وقال بصوتٍ محمومٍ : أيها الحكيم : لقد حدث شيءٌ فظيعٌ ، لقد هلك ثوري ، وليس لدى حيوانٌ يساعدني على حرث أرضي ! أليس ذلك أسوأ شيءٍ يمكن أن يحدث لي ؟ فأجاب الحكيم : ربما كان ذلك صحيحاً ، وربما كان غير ذلك ، فأسرع الفلاح عائداً لقريته ، وأخبر جيرانه بأن الحكيم قد جَن ، لقد كان ذلك أسوأُ شيءٍ يمكن أن يحدث لهذا الفلاح ، فكيف لم يتسن للحكيم أن يرى ذلك ؟ إلا أنه في اليوم ذاته ، شاهد الناس حصاناً قوياً ، بالقرب من مزرعة الفلاح ، ولكون الفلاح لم يعد عنده ثورٌ ليعينه في عمله ، فقد أتته فكرة اصطياد الحصان ليحل محل الثور ، وهو ما قام به فعلاً ، وقد كانت سعادة الفلاح بالغةً عند صيده , فلم يحرث الأرض بمثل هذا اليسر من قبل ، فما كان من الفلاح إلا أن عاد للحكيم ، وقدم إليه أسفه واعتذاره قائلاً : لقد كنتَ مُحِقاً أيها الحكيم ، فلم يكن فقداني للثور أسوأ شيءٍ يمكن أن يقع لي , بل كانت نعمةً لم أستطع فهمها , فلو لم يحدث ذلك لما تسنى لي أبدأ أن أصيد حصاناً جديداً ، لابد أنك توافقني على أن ذلك هو أفضل شيءٍ يمكن أن يحدث لي ، فأجاب الحكيم العجوز : ربما نعم ، وربما لا ، فقال الفلاح لنفسه : " لا " ثانيةً ، لابد أن الحكيم فقد صوابه هذه المرة ، ومرة أخرى لم يدرك الفلاح ما سيحدث بعد مرور بضعة أيامٍ ، وبعد عدة أيامٍ ، سقط ابن الفلاح من فوق صهوة الحصان ، فكُسِرَتْ ساقه ،
ولم يَعُدْ بمقدوره المساعدة في حصاد المحصول، ومرة أخرى ! ذهب الفلاح للحكيم ، وقال له : كيف عرفتَ بأن اصطيادي للحصان لن يكون أمراً جيداً ؟ لقد كنتَ على صوابٍ ثانيةً , فلقد جُرِحَ ابني ، ولن يتمكن من مساعدتي في الحصاد هذه المرة ، أنا على يقينٍ بأن هذا هو أسوأُ شيءٍ يمكن أن يحدث لي ، لابد بأنك توافقني هذه المرة ، نظر الحكيم للفلاح وقال : ربما نعم ، وربما لا ، فاستشاط الفلاح غضباً من جهل الحكيم ، وعاد من فوره للقرية، وفي اليوم التالي , قدم الجيش ، واقتاد جميع الرجال القادرين للمشاركة في الحرب التي اندلعت ضد أعدائهم ، وكان ابن الفلاح الشاب الوحيد الذي لم يصطحبوه معهم ، ومن هنا كتبت له الحياة ، في حين أصبح حتماً على الباقين أن يلقوا حتفهم .
كُنْ عـن همومك مُعرضاً                      وكِـل الأمـور إلى القضا
وانْعَمْ بـطـول سـلامةٍ                      تُسليك عـمّـا قـد مضا
فلربما اتـسـع المضيقُ                      وربـمـا ضــاق الفضا
ولـرب أمــراً مسخطاً                       لك في عواقـبـه رضـا
الله يفعل مــايـشـاء                       فــلا تـكــن مُتعرضاً
ياابن الكرام : ماأشبه المرض بحمامٍ عامٍ ، يدخله الإنسان مُغْبَرّاً ، عليه أكداسٌ من الأتربة ، وأقذار وأكدار الحياة ،فإذا به سرعان مايخرج منه نَشِطاً مَرِحاً ، جديداً ، مصقولاً ، كأنه المرآة ، يُحِس إحساساً مباشراً بصفاء روحه، وانشراح صدره ، وإشراق قلبه ، وتهلل جوارحه ،، كذلك يفعل المرض تماماً بتمامٍ ، بشرطٍ واحدٍ أصيلٍ ، وهذا الشرط هو : أن يفهم المؤمن حِكْمَةَ البلاء النازل به ، فيستسلم لقدر الله عز وجل فيه ، مع بذل الأسباب للشفاء ماأمكن،، ولا يكفي الاستسلام المجرد ، بل لابد هنا من الرضى عن الله جل جلاله ، والاطمئنان لحكمته عز وجل ، والوثوق برحمته ولطفه ، قال تعالى ( أليس اللهُ بأحكم الحاكمين ) " سورة التين آية 8 " ، بلى وربي ، أنا على ذلك من الشاهدين ،، فقد مرض أحد السلف مرضاً شديداً أنهكه ، فكان يقول لعوداه : إن اللهَ لايُتهم في قضائه ، فله الحمد على ما قضى وقدر ، فلطف الله جل جلاله ، يرافق قدره ، قال تعالى ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) " سورة الشرح آية 5 ـ 6 " ، إن المهم أن تفهم عن ربك ، وتثق بأن له في كل شيءٍ آيةَ وحِكْمَةً ، وأنه إنما يبتليك ليربيك ، أو يبتليك ليرقيك ،، فأنتَ بين بلاءٍ ، من أجل التربية والتطهير والصقل ، أو في بلاءٍ من أجل الترقية ، ورفع الدرجات والمقامات عند الله ، ففي كلا الحالين : أنت في نعمةٍ ، فاشكر الله ، واهِبَ النعم ،، نسأل الله العفو والعافية دائما ، وأن نكون إذا نزل البلاء ، كما يحب الله أن يرانا ،،، قال الشاعر :
رضيتُ بما قسم اللـه لـي                                وفوّضتُ أمـري إلى خالقي
كما أحسن الله فيما مضـى                                كـذلك يُحسن فيما بَـقِـي
عن جعفرٍ قال : اجتمع مالك بن دينار ، ومحمد بن واسعٍ ، قال مالك : إني لأغبط رجلاً معه دينه ، له قوامٌ من عيشٍ ، راضٍ عن ربه عز وجل ، فقال محمد بن واسع : إني لأغبط رجلاً معه دينه ، ليس معه شئٌ من الدنيا ، راضٍ عن ربه ، قال : فانصرف القوم ، وهم يرون أن محمداً أقوى الرجلين ،، وعن الفضيل بن عياض قال : درجة الرضى عن الله تعالى : درجة المقربين : ليس بينهم وبين الله تعالى، إلا رَوْحٌ وريحانٌ ،، وعن سليمان الخواص قال : مات ابن رجلٍ ، فحضره عمر بن عبد العزيز، فكان الرجل حسن العزاء ، فقال رجلٌ من القوم : هذا والله الرضا ، فقال عمر بن عبد العزيز : أو الصبر ، فقال سليمان : الصبر دون الرضا ، الرضا : أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة ، راضياً بأي ذلك كان ،، وعن عبيد الله بن شميطٍ قال : سمعت أبي يقول : إن أولياء الله ، ءاثروا رضى الله عز وجل على هوى أنفسهم ، وإن كانت أهواؤهم محنة لهم ، فأرغموا أنفسهم كثيراً لرضاء ربهم ، فأفلحوا ، ونجحوا ،، وعن حاتم الأصم قال : من أصبح وهو مستقيمٌ في أربعة أشياءٍ ، فهو يتقلب في رضا الله ، أولها : الثـقة بالله ، ثم التوكل ، ثم الإخلاص ، ثم المعرفة ، والأشياء كلها تتم بالمعرفة ،، وفي هذا كله قال الشافعي : 
دَعِ الأيـامَ تفعلُ ماتشـــاءُ                             وطِـبْ نفساً إذا حَكَمَ القضاءُ
ولا تـجـزعْ لحادثـةِ الليالي                             فـمــا لحوادثِ الدنيا بقاءُ
وكُن رَجُلاً على الأهوال جَلَداً                               وشِيمتكَ السماحةُ والوفـاءُ

وأختمُ حديثي بالرضى في الجنة ، ومن استمع لهاتين الآيتين ، أوضحتا له الكثير والكثير عن الرضى في الجنة ، فلنستمع لتلك الآيتين ، ونحن مستحضرون أننا مازلنا في هذه الدنيا ، قال تعالى ( والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسناً وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليمٌ حليمٌ ) " سورة الحج آية 58 ـ 59 " ،، فبالله عليك أخي : أما تشعر بالرضى؟ يا سبحان الكريم الوهاب ! رضا الجنة ، يصلك وأنت في الدنيا ، وما خفيَ كان أعظم ، إنه رضا الله الذي وعد أهل الإيمان بالرضا ، ولكن ياتـُرى ! أين وعدهم ؟ وعدهم وهم في الدنيا ، فأخبر جل وعلا عن النار، وأنها تلظى ، ولكن ياأهل الإيمان : أبشروا أنكم بفضل الله ، ستتجنبوا تلك النار ، بل وستحظون بالرضا ، قال تعالى ( فأنذرتكم ناراً تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الـذي كـذب وتولـى * وسيجنبها
الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى ) " سورة الليل من آية 14 إلى آية 21 " ،، إنه الرضا الذي وعدنا ربنا به ، ونحن في الدنيا ، فكيف إذا صِرنا إليه ؟ ماظنك به ؟ لاتطلق لخيالك الانطلاقة في ذلك الرضى ، فإنه أكبر بكثيرٍ مما يدور بالخيال ، وكيف لا ، وفي الجنة مالا عينً رأتْ ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خَطَرَ على قـلـب بشرٍ ، فكل ماخطر على قلبك من الرضا ، قل له : بل أكبر من ذلك عند ربي ، حتى إذا حقت الحاقة ، ووقعت الواقعة ، وقام الناس حُفاةً عُراةً غُرلاً ، ووقفوا ما شاء الله أن يقفوا ، وصدق من قال :

وطارت الصحف في الأيدي مُنَشرةً                         فيها الـسـرائـر والأخبار تطلع

وفي هذا قال تعالى ( فأما من أوتيَ كتابهُ بيمينهِ فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننتُ أني مُلاقٍ حسابيه * فهو في عيشةٍ راضيةٍ * في جنةٍ عاليةٍ * قطوفها دانيةٌ ) " سورة الحاقة من آية 19 إلى آية 23 " ،، نعم والله يبشر بعيشةٍ راضيةٍ ، وهـو فـي أرض المحشر ، وما ذاك إلا لما قدم في الدنيا ، قال تعالى ( وجوهٌ يومئذٍ ناعمةٌ * لسعيها راضيةٌ ) " سورة الغاشية آية 8 ـ 9 " ، فيرضى عما قدم من عملٍ ، بعد أن أخذ كتابه باليمين ، وبُشرَ بعيشةٍ راضيةٍ ، حتى إذا تقدم أمام الأنبياء والمرسلين ، وخير ولد آدم أجمعين، وأهل الجنة خلفه، في موكبٍ مهيبٍ ، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقرع باب الجنة ، فلا تعجب أخي ! إن علمتَ بأن الذي يجيب قرع الباب هو خازن الجنة " رضوان " ، الله أكبر !! دار الرضا ، اشتق من اسم خازنها، من الرضا ، فأصبح اسمه " رضوان " ،، فتراه وتسمع صوته ، وكأنها بشرى بما في الجنة من رضا ،، حتى إذا تدفقت الجموع لدار النعيم المقيم ، حتى يزدحم بهم بابٌ ، عرضه مسيرة أربعين سنةً ، وتتلقاهم الملائكة بالتهنئة والتحية ، فينزلون منازلهم وقصورهم ، كل منهم أعرف بمنزله في الجنة ، أكثر من معرفته لمنزله في الدنيا ، تتلقاهم الحور العين ، الخيرات الحسان ، يغنين بأحسن الأصوات قائلين " نحن الراضيات فلا نسخط " ،، وضدق القائل :

ماظـن سامعه بـصـوت أطيب                                الأصوات من حور الجنان حسان
نحن النواعم والخوالد خـيـرات                               كـامـلات الحسن والإحـسـان
لسنا نـمـوت ولا نخاف وما لنا                               سـخـط ولا ضغن من الأضغان
 طوبى لمن كـن له وكذاك طوبى                               للـذي هــو حـظـنـا لفظان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق