الخميس، 27 يناير 2011

كن شجاعاً

الشجاعة هي التماسك الذاتي ، وهي القدرة على مواجهة القلق الذي ينشأ لدى الإنسان عندما يتوخى تحقيق حريته وإرادته ،، وهي الرغبة والإرادة للتخلص من الاتكالية ، والانطلاق باتجاه مستوياتٍ جديدةٍ من الاعتماد على النفس والتكامل ،، والشجاعة سِمَةٌ مُلازمةٌ للمرء ، يحتاجها في كل خطوة يقدم فيها على اتخاذ قرارٍ له أثره الكبير في حياته ، ابتداءاً من رغبته في قطع اتكاليته على والديه ، وانتهاءاً بقرار الزواج المناسب ، واختيار المهنة الملائمة ،، فالشجاعة إذاً يحتاجها الانسان في كل فترة من فترات حياته ، والشجاعة حسب مفاهيم هذا العصر لا تعني أنها عكس الجبن والخور ،، فحين تقول أن شخصاً ما جبانٌ ، فإنك لاتزيد بقولك هذا على أنه كسلان أو مترهلٌ ، أو انه لا يبالي ، وفي كل الأحوال ، لاتكون قد رميتَ بوصفك هذا إلى أنه إنسان تنقصه الشجاعة ، إنما هي أوصافٌ لها مدلولاتها ، حسب أمزجة مستعمليها ،،، إن مانتطلع إليه في أيامنا هذه هو الفهم العميق لمفاهيم الصداقة بمعناه الحميم ، والشجاعة بمرماها الصميم . إننا نتوق إلى هذه المفاهيم بمعناها الدافئ ، بمعناها الشخصي الذاتي النظيف الأصيل ، البنّاء بمدلولها ، إننا خليقون بأن نحيي مفهوم الشجاعة بمعناها الايجابي ، بمعناها الذي يدل على حقيقة النماء الداخلي والذاتي ،، والشجاعة بوصفها
طريقة بناء لذلك الجانب من وجود الفرد الذي يكون دالاً على قوة الثقة بالنفس والجود بها في مواطن النبل ، والشجاعة في واقع مفهومها إنما هي أساس العلاقة الابداعية ، فمن أقدم العصور الضاربة فـي القدم ، أيـام سـرق بروميثوس النار وعلم الانسان كيفية استعمالها ، وما تلا ذلك من أيام ، اتضح بأن البشر حتى يبدعوا يتعين عليهم أن يستجمعوا عناصر الشجاعة في أنفسهم أولاً ،، " بلزاك " الـذي أدرك أبـعـاد هـذه الحقيقة من خـلال تداعياته وخبرته ، نجده قد وصف الشجاعة بصورة واضحةٍ وشافيةٍ ، حيث قال وليس لنا إلا أن ندع كلماته تتحدث عن نفسها " إن السجية التي تستحق أسمى صور التمجيد في الفن ، وفي جميع ضروب الإبداعات الفكرية ، هي الشجاعة ؛ الشجاعة التي لم تحط جميع العقول المشتركة بمفهومها ، ولم تستطع الإحاطة بها وبمغزاها ،، إنها الشجاعة الرامية إلى التخطيط ، والحلم ، وتصوير الأعمال الرفيعة وتصورها ، إنها شيءٌ يبعث على الغبطة والنشوة والانتشاء بكل تأكيدٍ ، ولكنها إلى جانب ذلك كله ، فهي القدرة على الانتاج والعطاء والولادة ، وحمل الطفل على أن يعمل بمفرده بعد إنجابه ، والعناية به والحدب عليه ، وحمله في الصباح بين الذراعين بـكـل مافي الأمـومـة مـن حنان متدفق ، وإلباسه مئات البدلات الجميلة التي طالما يمزقها مراراً " ،، إنها الشجاعة الدافعة لعدم التراجع والتقهقر أمام اضطرابات الحياة المجنونة هذه ؛ بل هي تجعل مما في الحياة تحفة ماثلة للعيان ، تكاد تنطق أمام كل عين تراها ، فتجعل منها تحفاً في النحت، ومأثورات في الأدب، وصوراً في الرسم ، بل تجعل منها قطعة في الموسيقى، تنساب للنفوس ، فتشيع البهجة في ثنايا القلوب ، تلك هي مهمة التنفيذ والتطبيق المرتجاة من الشجاعة ،، وفي ضوئها يتعين على اليد أن تكون مهيأةً في كل لحظة ، لتمتثل لتوجيه العقل ، وأن لحظات العقل الابداعية لاتنصاع لترتيبٍ بعينه ،، والفنان المتألق إذا لم يُلْقِِ بنفسه في خِضَم عمله وصلبه ، كما يفعل الجندي مندفعاً غير هياب في سبيل النجدة ، فإن عمله الفني لن يكتب له الكمال ، والكمال كله لله تعالى ؛ وعمله هذا في النهاية سيتلاشى ويختفي ، فيصبح الإنتاج بعد ذلك مستحيلاً ، ويطفق الفنان يترقب انتحار عبقريته ،، ولذلك السبب بعينه ، وتلك المكافأة ذاتها ، وذلك الانتصار نفسه ، ولذات أكاليل الغار هذه ، وبسبب تلك الأمجاد كلها ، تنسب إلى الشعراء الفحول هذه الفضائل كلها مثلما هي تنسب إلى القادة العظام .
نحن الآن نعرف من خلال دراسات التحليل النفسي ، مما لم يكن يعرفه " بلزاك " ، إن أحد الأسباب التي تجعل النشاط الإبداعي يستوفي مقداراً كبيراً من الشجاعة لكي تستحدث مواقف يصبح المرء فيها متحرراً من ربقة ، هو الانشداد للماضي الطفولي ، واحترامً القديم ، ليتاح للجديد أن يولد ،، إذْ أن ما يحققه المرء من أعـمـال منظورة ، كما في الفن والأعمال
الحرة وغيرها ، أو تحقيق مايبني للمرء ذاته ، إنما هما جانبان للعملية نفسها . وكل إبداعٍ أصيل يعني تحقيق مستوى أرفع في وعي الذات وإدراكها ؛ وأن ذلك ، كما رأينا في قصص آدم وغيرها ، يمكن أن ينطوي على قدرٍ كبيرٍ من الصراع الداخلي ،، كان هناك رسام مولعٌ برسم المناظر الطبيعية ، وكانت مشكلته تتمثل في اجتهاده للتخلص من ربقة أم متسلطة ،  وكان لسنين عديدة يسعى إلى أن يرسم مناظر ، ولكنه لم يجرؤ ، وقد تمكن في النهاية من استجماع قواه ، واستحضار عناصر شجاعته ، ولازم مرسمه ، وقد تمكن من رسم عدة رسومٍ في غضون ثلاثة أيام ، وتبين أنها كانت رسوماً ممتازةً ،، ولكنه ! ويا للغرابة ! لم يكن يشعر فقط بغبطةٍ كبيرةٍ وحدها ، بل إلى جانب ذلك كان يحس بقلقٍ كثيرٍ أيضاً . ففي الليلة الثالثة من بداية الرسم ، رأى حُلُماً ، وفيه تخبره والدته بأن عليه أن ينتحر ، وراح يستدعي أصدقاءه ليودعهم ، وهو في حالةٍ من الذعْرِ والإحساس الغامر بالوحدة والوحشة ،، فما تفسير ذلك ؟ إن الحلم في الواقع كان يقول له " إذا كنت ستبدع ، فإن عليك أن تودع المعتاد المألوف ، وستكون مستوحداً وتموت ؛ فالأفضل لك أن تبقى مع المألوف وتستبقيه ، وألا تبدع " ،، إنه لمن الأهمية بمكان ، حين نرى طبيعة هذا التهديد اللاشعوري الفعال ، فإنه لن يتمكن من رسم صورٍ أخرى إلا بعد مرور شهرٍ ، أي بعد أن يتمكن من التغلب على القلق الذي في صدره ، والذي انتشر وظهر له في حلمه المذكور ،، إنه لمن الطبيعي والمناسب أن يشجع الطفل ، ويتم توجيهه ، ليتخذ بنفسه كل خطوة ممكنة ، تمكنه من التفرد بشخصيته المميزة له ، ولكي يكون هو ذاته متميزاً لهذا الضرب ، لابد من توجيه الطفل وإرشاده ونصحه ، ليتم تحديد ملامح ذاته وتعزيز حقيقة ثقته بنفسه ومستقبله ، بشرط أن يتم ذلك من غير تعريضه إلى قلق يخيفه ويرهقه ،، فإذا توفر له مثل هذا الجو الحيوي ، الخالي من الكآبة والقلق ، فبوسعه أن يتسلق ذرى الارتقاء التدريجي ، رغم ما قد يواجهه من الإحباطات ، فيتمكن من تحقيق ذاته ، وينال شيئاً من استقلاله الذاتي ، وذلك بالاعتماد على نفسه ، وعلى جهده الخاص به ، وكلما تفرد الطفل ولقي التشجيع في هذا السبيل من لدن أبويه ، أحرز هويته الذاتية ، وحقق قوة ذاتيةً في المجتمع ،، هذه حقيقة ملموسة ، يجب على الآباء إدراك أهميتها بالنسبة لنشأة الأبناء ،، إن كلاً من الحماية المفرطة للطفل ، أو التعسف والتعنت في إذلاله ، تتولد لدى الطفل نتائج عكسية تتبدى تدريجياً في تصرفاته ، وترافقه كلما تقدم في مدارج النمو ، وفي النهاية تجد أن ترك اللامبالاة والتهور، وترك الحماية المغالى فيها ، تؤدي إلى نمو الطفل نمواً قويماً ،، ومبدأ التشجيع والتقدير السليم لما هو عليه الطفل من قدرات ، سيؤدي إلى أفضل النتائج المرتجاة ،، وبطبيعة الحال ، نـادراً مايلزم الآباء أبناءهم ، باتخاذ أدوارٍ مغايرةٍ لأدوار الجنس الذين وُلِدُوا
بالفطرة عليه ، فالآباء يطلبون من أبنائهم إحراز الدرجات المدرسية المرتضاة ، وأن يكون طبيعياً في تصرفاته ، وأن يندمج في الوسط الاجتماعي بما يبعده عن مواطن الشبهات ، ولكي يعيش الأبناء وفق أماني الآباء إنما يمثل السبيل الوحيد الذي يتيح للأبناء الظفر بإطراء الآباء، وأن يبقوا دائماً هم " حدقات العيون " ،، فالتشجيع على مواجهة الحياة برصانةٍ ، إنما هو جوهر الشجاعة ،، وللشجاعة آفاتٌ تعترض سبيلها ، وتفسد مزاياها ، ومن تلك الأوباء : التهور ، والغرور ، والنرجسية ،، فالشجاعة تنشأ وتنمو من إحساس المرء بكرامته ، وحسن تقديره لذاته ، ولكن الغرور والنرجسية حين تتسلطان على الفرد ، يصرفانه عن أهداف الشجاعة ، أهدافها السامية ، وكلٌ من الغرور والنرجسية يجعلان الفرد يحس الضعة في قرارة نفسه ، والشجاعة والحكمة صنوانان لا يفترقان ، وهما وجهان لمكوكةٍ ثمينةٍ واحدةٍ ،، إن الفكر وتمييز النظر في حقائق الأمر ، لهي من المكاسب التي يتمكن منها المرء بالتمارين والممارسة والاعتياد عليها ، فهي نتائج طيبة لتربية وتنشئةٍ طيبةٍ ، واكتساب محامد الأخلاق ، إنما يتأتى من حُسْنِ التأديب الحصيف ، فيكسب الذات فضائلها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق