كن حَياً فاعلاً ،، فالشمس تُشْرِقُ وتغرب ، والأرض من حولها تدور ، والحياة تنبثق من هنا وهناك ، وكل شيءٍ لنَمَاءٍ ،، نَمَاءٌ في العدد والنوع ، ونَمَاءٌ في الكَم والكيف ، فلو كان الموت يصنع شيئاً ، لوقف مدى الحياة ! ولكنه قوةٌ ضئيلةٌ حسيرةٌ ، بجانب قوة الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة ،، كن صاحب فكرةٍ ! فعندما نعيش لذة ما ، فإن الحياة تبدو لنا قصيرةً ضئيلةً، تبدأ من حيث بدأنا نعي ، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود ، أما عندما نعيش لغيرنا ، " أي عندما نعيش لفكرة " ، فإن الحياة تبدو طويلةً عميقةً ، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية ، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض ،، ضاعفْ إحساسك بالآخرين ، فليست الحياة بعدد السنين ، بل
بعداد المشاعر ، لأن الحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان بالحياة ، فعندما تجرد أي إنسان من الشعور بحياته ، ستكون قد جردته من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي ، ومتى أحس الإنسان بشعورٍ مضاعفٍ بحياته ، فقد عاش حياةً مضاعفةً فعلاً ،، إننا نعيش لأنفسنا حياةً مضاعفةً ، حينما نعيش للآخرين ، وبقدر مانضاعف إحساسنا بالآخرين ، نضاعف إحساسنا بحياتنا ، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية .
استمسك بالمبدأ ، حين تتجاوز المظهر المزور البراق لشجرة الشر ، وتفحص عن قوتها الحقيقية وصلابتها ، ستبدو لك حينها واهنةً هشةً نافشةً ، في غير صلابةٍ حقيقيةٍ ، في حين تصبر شجرة الخير على البلاء ، وتتماسك للعاصفة ، وتظل في نموها الهاديء البطيء ، لاتحتفل بما ترجمتها به شجرة الشر من أقذارٍ وأشواكٍ ،، فابحث عن نبع الخبر ،، عندما تلمس الجانب الطيب في نفوس الناس ، تجد بأن هناك خيراً كثيراً ، قد لا تراه العيون من أول وهلةٍ ،، إن الشر ليس عميقاً في النفس الإنسانية للحد الذي تتصوره أحياناً ، بل إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء ، فإذا ءامنوا ! تكشفت تلك القشرة الصلبة عن ثمرةٍ حلوةٍ شهيةٍ ، وهذه الثمرة الحلوة ، إنما تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن من جانبه ، وذلك بالثقة في مودته ، وبالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم ، وعلى أخطائهم، أو على حماقاتهم كذلك ،، واعلم بأن شيئاً من سعة الصدر في أول الأمر ، كفيلٌ بتحقيق ذلك كله ، وأقرب مما يتوقع الكثيرون ، فقد جربتُ ذلك ، نعم جربته بنفسي ، فلستُ أطلقها بمجرد كلماتٍ مُجنحةٍ ، وليدة أحلامٍ وأوهامٍ ،، أتقن لغة الحب والعطف ، عندما تنمو في نفسك بذور الحب والعطف والخير ، تعف نفسك من أعباءٍ ومشقاتٍ كثيرةٍ ،، إننا لن نكون بحاجةٍ إلى أن نتملق الآخـرين ، لأننا سنكون حينها صادقين مخلصين ، إذْ نُزْجِي إليهم الثناء ، وسنكشف في نفوسهم عن كنوزٍ من الخير ، وسنجد لهم مزاياً طيبةً ، نثني عليها ، حين نثني ونحن صادقون ، ولن يعدم إنسان ناحيةً خيرةً ، أو مَزيةً حسنةً تؤهله لكلمةٍ طيبةٍ ، ولكننا لانطلع عليها ، ولا نراها إلا حينما تنمو في نفوسنا بذرة الحب ، وكذلك لن نكون بحاجةٍ لأنْ نُحَملَ أنفسنا مؤونة التضايق منهم ، ولا حتى مؤونة الصبر على أخطائهم وحماقاتهم ، لأننا سنعطف على مواضع الضعف والنقص ، ولن نفتش عليها ، لنراها يوم تنمو في نفوسنا بذرة العطف ، وبطبيعة الحال ! لن نجشم أنفسنا عناءَ الحقدِ عليهم ، أو عِبْءَ الحذر منهم ، ونتخوف منهم لان عنصر الثقة في الخير ينقصنا ، كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة ! حين نمنح الآخرين عطفنا وحبنا وثقتنا ، يوم تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف والخير ،، إن العظمة الحقيقية هي : أن نخالط هؤلاء الـنـاس ، مشبعين بـروح السماحة والعطف ، على
ضعفهم ونقصهم وخطئهم ، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ، ورفعهم لمستوانا بقدر ما نستطيع ، وهذا ليس معناه بأن نتخلى عن آفاقنا العليا ، ومثلنا السامية ، أو أن نتملق هؤلاء الناس ، ونثنى على رذائلهم ، أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقأ ، بل إن التوفيق بين هذه المتناقضات ، وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهدٍ ، هو العظمة الحقيقية .
إننا نحاول أن نصنع كـل شىء بأنفسنا ، ونستنكف بأن نطلب عـون الآخرين لنا ، أو أن نضم جهدهم لجهودنا ، ونستشعر الغضاضة بأن يعرف الناس أن ذلك العون كان له أثرٌ في صعودنا للقمة ،، إننا نصنع هذا كله حين لا تكون ثقتنا بأنفسنا كبيرةٌ ، أي عندما نكون بالفعل ضعفاء في ناحيةٍ من النواحي ، أما حين نكون أقوياء حقأً ، فلن نستشعر من هذا كله شيئاً ،، إن الطفل هو الذي يحاول أن يبعد يدك التي تسنده ، وهو يتكيءُ في المسير عندما نصل إلى مستوىً معينٍ من القدرة ، سنستقبل عون الآخرين لنا بروحِ الشكر والفرح ، فالشكر لما يقدم لنا من عونٍ، والفرح بأن هناك من يؤمن بما نؤمن به نحن، فيشاركنا الجهد والتبعة ، فالفرح بالتجاوب الشعوري هو الفرح المقدس الطليق .
كن صالحاً مُصلحاً ، فالفرح الحقيقي هو الثمرة الطبيعية ، لأن نرى أفكارنا وعقائدنا مُلْكاً للآخرين ، ونحن بعدُ أحياءٌ ،، فمجرد تصورنا لها بأنها ستصبح ولو بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض ، زاداً للآخرين ورياً ، ليكفي أن تفيض قلوبنا بالرضا والسعادة والاطمئنان ، اتصل بالنبع الأصيل " التجار " فوحدهم هم الذين يحرصون على " العلامات التجارية " لبضائعهم ، كي لايستغلها الآخرون ، ويسلبوهم حقهم من الربح ، أما المفكرون وأصحاب العقائد ، فكل سعادتهم أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم ، ويؤمنوا بها إلى أن ينسبوها لأنفسهم ، لا إلى أصحابها الأولين ، فهم لا يعتقدون بأنهم أصحاب هذه الأفكار والعقائد ، بل هم مجرد وسطاء في نقلها وترجمتها ، وأنهم يحسون بأن النبع الذي يستمدون منه ليس من خلقهم، ولا من صنع أيديهم ، وكل فرحهم المقدس ، إنما هو ثمرة اطمئنانهم إلى أنهم على اتصالٍ بهذا النبع الأصيل ،، فالرواد كانوا دائماً ، وسيكونون هم أصحاب الطاقات الروحية الفائقة ، وهؤلاء هم الذين يحملون الشعلة المقدسة ، التي تنصهر في حرارتها كل ذرات المعارف ، وتنكشف في ضوئها طريق الرحلة ، مزودةً بكل هذه الجزئيات ، وقوية بهذا الزاد ، وهي تغذ السير نحو الهدف السامي البعيد ، وهؤلاء الرواد ! هم الذين يدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة المتعددة المظاهر في العلم والفن ، والعقيدة والعمل ، فلا يحقرون واحداً منها ، ولا يرفعونه فوق مستواه ،، فليس الرواد الصغار وحدهم ، هم الذين يعتقدون أن هناك تعارضا بين القوى المتنوعة المظاهر، فيحاربون العِلمَ باسم الدين ، أو الـدين باسم العِلم ، ويحتقرون الفن باسم
العمل ، أو الحيوية الدافعة باسم العقيدة المتصوفة ، ذلك لأنهم يدركون كل قوة من هذه القوى، منعزلة عن مجموعة من القوى الأخرى الصادرة كلها من النبع الواحد ، من تلك القوة الكبرى المسيطرة على هذا الوجود ، بل أيضاً الرواد الكبار يدركون تلك الوحدة ، لأنهم متصلون بذلك النبع الأصيل ، ومنه يستمدون ، فهم قليلون في تاريخ البشرية ، بل نادرون ! ولكن منهم الكفاية ، فالقوة المشرفة على هذا الكون ، هي التى تصوغهم ، وتبعث بهم في الوقت المقدر المطلوب .
جدد عقلك باحترام العقل البشري ذاته ، وذلك بأن نحسب للمجهول حـسـابـه في حياتنا ، لا لنوكل إليه أمورنا ، كما يصنع المتعلقون بالوهم والخرافة ، ولكن لكى نحس عظمة هذا الكون على حقيقتها ، ولكى نعرف لأنفسنا قدرها في كيان هذا الكون العريض ، وإن هذا لخليقٌ بأن يفتح للروح الإنسانية قوىً كثيرةً ، للمعرفة والشعور بالوشائج ، التي تربطنا بالكون من داخلنا ، وهى بلا شكٍ أكبر وأعمق من كل ما أدركناه بعقولنا حتى اليوم ، بدليل أننا مانزال نكشف في كل يومٍ عن مجهولٍ جديدٍ ، وأننا لانزال بَعْدُ نعيشُ ، وكلما ازددنا شعوراً بعظمة الله المطلقة ، زِدْنا نحن أنفسنا عظمةً ، لأننا من صنع ربٍ عظيمٍ ،، إن هؤلاء الذين يحسبون أنهم يرفعون أنفسهم ، حين يخفضون في وهمهم ربهم ، أو ينكرونه ، إنما هم المحدودون الذين لايستطيعون أن يروا إلا الأفق القريب ، فهم يظنون بأن الإنسان إنما لجأ إلى الله حين ضعفه وعجزه ، وأما الآن فهو من القوة ، بحيث لا يحتاج إلى ربٍ ، وكأن الضعف يفتح البصيرة ، والقدرة تطمسها ،، إن الإنسان لجديرٌ بأن يزداد إحساساً بعظمة الله المطلقة ، كلما نمتْ قوته ، لأنه جديرٌ بأن يُدْرِكَ مصدر هذه القوة ، كلما زادت طاقته على الإدراك ،،، كن مؤمناً ، فالمؤمنون بعظمة الله المطلقة ، لا يجدون في أنفسهم ضعةً ولا ضعفاً ، بل يجدون في أنفسهم العزة والمنعة ، باستنادهم للقوة الكبرى ، المسيطرة على هذا الوجود ، فهم يعرفون بأن مجال عظمتهم ، إنما هو في هذه الأرض ، وبين هؤلاء الناس ، فهي لا تصطدم بعظمة الله المطلقة في هذا الوجود ، لأن لهم رصيداً من العظمة والعزة في إيمانهم العميق ، لا يجده أولئك الذين ينفخون أنفسهم كالبالون ، حتى يغطي الورم المنفوخ عن عيونهم كل آفاق الوجود .
إن التحرر الحقيقي أحياناً ، تتخفى فيه العبودية بثياب الحرية ، فتبدو انطلاقاً من جميع القيود ، وانطلاقاً من العُرْفِ والتقاليد ، وانطلاقاً من تكاليف الإنسانية في هذا الوجود ، فهنالك فارقٌ أساسيٌ بين الانطلاق من قيود الذل والضغط والضعف ، والانطلاق من قيود الإنسانية وتبعاتها ،، إن الأولى معناها التحرر الحقيقى ، وأما الثانية فمعناها التخلي عن المقومات التى جعلت من الانسان إنـسـانـاً ، وأطلقته من قيود الحيوانية الثقيلة ، إنها حريةٌ
مقنعةٌ ، لأنها في حقيقتها خضوعٌ وعبوديةٌ للميول الحيوانية ، تلك الميول التى قضت البشرية عمرها الطويل ، وهى تكافحها ، للتخلص من قيودها الخانقة ، إلى جو الحرية الإنسانية الطليقة ،، فكن جميل القدوة ، فالمباديء والأفكار في ذاتها بلا عقيدةٍ دافعةٍ ، هي مجرد كلماتٍ خاويةٍ ، أو على الأكثر معانٍ ميتةٍ ، والذي يمنحها الحياة هي حرارة الإيمان ، المشعة من قلب الإنسان المسلم ، فلن يؤمن الآخرون بمبدأٍ أو فكرةٍ ، تنبت في ذهن باردٍ لا في قلبٍ مشعٍ ، فآمن أنتَ أولاً بفكرتك ، آمن بها لحد الاعتقاد الحار ، عندئذٍ يؤمن بها الآخرون ، وإلا فستبقى مجرد صياغةٍ لفظيةٍ ، خاليةٍ من الروح والحياة ، ولا حياة لفكرةٍ لم تتقمص روح إنسانٍ ، ولم تصبح كائناً حياً ، ظهر على وجه الأرض في صورة بشرٍ ، وكذلك لا وجود لشخصٍ في هذا المجال ، لاتعمر قلبه فكرةً يؤمن بها بحرارةٍ وإخلاصٍ ،، إن التفريق بين الفكرة والشخص ، كالتفريق بين الروح والجسد ، أو المعنى واللفظ ، فعمليةٌ في بعض الأحيان مستحيلةٌ ، وفي بعض الأحيان تحمل معنى التحلل والفناء ، وكل فكرةٍ عاشت ، تكون قد اقتاتت قلب إنسانٍ ، وأما الأفكار التي لم تطعم هذا الغذاء المقدس ، فقد وُلِدَتْ مَيتةً ، ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً للأمام ،،، نظف وسيلتك الغاية النبيلة ، ولا تحيا إلا في قلبٍ نبيلٍ ، كيف يمكن لذلك القلب بأن يطيق استخدام وسيلةٍ خسيسةٍ ؟ بل كيف يهتدي لاستخدام هذه الوسيلة ؟! حين نخوض إلى الشط الممرع بركةً من الوحل ، لابد أن نصل للشط ملوثين ، فأوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا ، وعلى مواضع هذه الأقدام ، وكذلك الحال حين نستخدم وسيلةً خسيسةً ، فالدنس سيَعْلَقُ بأرواحنا ، وسيترك آثاره في هذه الأرواح ، وفي الغاية التي وصلنا إليها .
وأخيراً ،،، إن الوسيلة في حساب الروح جزءٌ من الغاية ، ففي عالم الروح لا توجد هذه الفوارق والتقسيمات ، والشعور الإنساني وحده إذا أحس بغايةٍ نبيلةٍ ، فلن يطيق استخدام وسيلةٍ خسيسةٍ ، بل لن يهتدي لاستخدامها بطبيعته " ، وحكمة الغرب الكبرى تقول " الغاية تبرر الوسيلة " ، لأن الغرب يحيا بذهنه ، وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات والفوارق بين الوسائل والغايات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق