السبت، 8 يناير 2011

كن يداً عليا

رغم يقيننا بأن عدم وجود المال ، لا ينبغي أن يكون سبباً أو مبرراً للتقاعس عن التأثير وصناعة الحياة ، إذْ أن التاريخ والواقع قد ذكرا لنا بأن عدداً من الفقراء كان لهم الأثر البالغ في دنيا الناس ، كما أن كثيراً من العلماء الذين بلغ تأثيرهم الآفاق ، وعبر القرون والقارات ، إذْ كانوا فقراء ، حتى قال قائلهم { قلت للفقر : أين أنت مقيم ؟ قال : في عمائم الفقهاء . إن بيني و بينهم لإخاءٌ ، وعزيزٌ عليّ ترك الإخاء } ،، وهذا العالِمُ الفقيه / عبدالوهاب المالكي ، كان يعيش في بغداد، فضاق به الحال ، فقرر الرحيل منها ، وقال للناس : و الله لو وجدتُ رغيفين كل صباحٍ و مساءٍ ، ماعدلتُ عن بلدكم هذا ، ثم قال :
بغداد دارٌ لأهــل الـمـال طيبةٌ             وللمفاليس دارُ الضنكِ والضيـقِ
أقول : رغم يقيننا بهذا كله ، إلاَّ أن كلامنا هذا ليس دعوة لطلب الفقر ، وترك الكسب الحلال ، فاليد العليا خير من اليد السفلى ، وقد ذهب أهل الدثور بالأجور ، وما ضر عثمان بن عفانٍ رضي الله عنه ما فعل بعد أن اشترى الجنة بماله مرتين ، ونِعْمَ المالُ الصالحُ للرجلِ الصالحِ ،، فعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فسأله فقال ( أما في بيتك شيءٌ ؟ قال : بلى ، حلس نلبس بعضه ، و نبسط بعضه ، وقعب نشرب فيه الماء ، فقال : ائتني بهما ، فأتاه بهما ، فأخذهما رسول الله صلَّى الله عليه و سلَّم بيده ، وقال : مَنْ يشتري هذين ؟ قال رجل : أنا آخذهما بدرهمٍ ، فقال رسول الله صلَّى الله عليه و سلَّم : مَنْ يزيد على درهمٍ مرتين أو ثلاثةً ؟ ، قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين ، فأعطاهما إيـاه ، و أخـذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري و قال : اشتر بأحدهما طعاماً ، فانبذه
لأهلك ، و اشتر بالآخر قدوماً فائتني به ، فأتاه به ، فشد فيه رسول الله صلَّى الله عليه و سلَّم عوداً بيده ، ثم قال : اذهب فاحتطب و بِعْهُ ، ولا أرينك خمسة عشر يوماً ، ففعل ، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوباً ، وببعضها طعاماً ، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة ، إن المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاث : لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع ) ، هكذا يتبين لنا كم نحن بحاجةٍ لأن نكون أقوياء بالله تعالى أولاً ، ثم بما نحمل من مبادئ وقَيِمٍ ساميةٍ ، ثم بـكـل أداةٍ أو وسيلة ، تمكننا من إحقاق الحق وإعلانه وإقامة أمره ، و لعل المال أداةٌ فعالةٌ في تحقيق كثيرٍ مما يريده الحق و يوجب نفاذه ،، ومن الحقائق التي ينبغي إدراكها وعدم مخادعة النفس والآخرين بالتحايل عليها هي : أن من طبيعة الإنسان حبه للمال ، و الرغبة في الحصول عليه، ولذلك أخشى أن كثيراً من الذين يكثرون الحديث عن الزهد ، ويتكلمون ضد المال ، ويتهمونه بالنجاسة و الإغواء ، أن يتحقق فيهم قول أبي العتاهية حينما قال :
تزاهدتُ في الدنيا و إني لراغبٌ               أرى رغبتي ممزوجـةً بزهادتي
لذا لا يجوز لصناع الحياة ، ومهندسي التأثير النافع ، أن يكونوا أقل فطنةٍ وذكاءٍ في استثمار المال ، والانتفاع به لصالح التأثير النافع ، من اليهود الذين لم يذم الله تعالى قوماً كما ذمهم ، و لم يلعن أمة كما لعنهم ،،، إن الإسلام نظم التعامل مع المال ، ودعا إلى الكسب الحلال ، ولم يحارب المال ، بل حارب المال الخبيث ، الذي يتم الحصول عليه من الظلم والغش والخداع ، وإيذاء الناس وأكل حقوقهم ،، يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاَّ أن تكون تجارة عن تراض منكم ) " سورة النساء آية 29 " ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مر على صبرة طعام ، فأدخل يده فيها ، فنالت أصابعه بللاً، فقال ( ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال : أصابته السماء يا رسول الله، قال : أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ، مَنْ غشَّنا فليس منا ) ،، ولذا وجدنا عدداً ليس بالقليل من كـبـار الصحابة والتابعبين والسلف ، كانوا أغنياء ، وكانوا مفاتيح للخير ، بسبب ماعندهم من مالٍ وثراءٍ ، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر : عبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن عفان ، وسعد بن أبي وقـاص ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الـمـبـارك ، وأبو حنيفة النعمان ، و غيرهم ،،، إن المال سلاحٌ ذو حَدينِ ، فإما أن تستخدمه للتأثير النافع ، وصناعة واقع يحترم القيم والمبادىء ، فيكون فيه خيرٌ كثيرٌ وأجرٌ عظيمٌ , وإما أن تجعله في الفساد والانحراف ، ومحاربة الدين وأهله ، فيكون فيه شرٌ كثيرٌ وإثمٌ كبيرٌ ،، إن النظم السائدة اليوم ، تجعل الـرفـاه والغنى وتحصيل المال ، هو الغاية التي يسعى الفرد لنيلها ، والمجتمع
لبلوغها ، ولذلك كانت حضارة اليوم حضارةً ماديةً ، سواءً كانت شيوعيةً أم رأسماليةً ، وقد ضرب الرأسماليون في سبيل تحقيق هذا الهدف ، بمبادئ الدين والأخلاق ، عرض الحائط ، لأن الدين والخلق يوجهان الفرد والمجتمع وجهة أخرى ، يكون المال فيها وسيلةً لاغايةً .
إن الغاية في الإسـلام هو الله ، قال تعالى ( ففروا إلى الله إني لكم منه نذيرٌ مبينٌ ) " سورة الذاريات آية 50 " . ومن المقرر لدى علماء الأصول ، أن شريعتنا الإسلامية تدور أحكامها حول حماية خمسة أمورٍ ضروريةٍ ، و هي أصلٌ لكل الأحكام الفرعية ، و قد أطلق عليها علماء الأصول " الضروريات الخمس " ، وهذه الضروريات الخمس هي : حفظ الدين ، وحفظ النفس ، و حفظ المال ، و حفظ العِرضِ ، و حفظ العقل ،، كما أن المال وديعةٌ في أيدي العباد ، استودعهم الله إياها ، ليؤدوا زكاتها ، وليثمروها بالطرق المشروعة دون ظلم ، ولئلا يسرفوا فيها ، ولا ينفقوها في المفاسد ، قال تعالى ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) " سورة النور آية 33 " ، كما لا يجوز تبديد المال بوضعه في أيـدي السفهاء الذين لا يعرفون قيمته ، [ راجع كتاب / عبد الرحمن النحلاوي ، أصول التربية الإسلامية و أساليبها ، دار الفكر ، سوريا ، 1983 ، ص 71 ] ،، وللمال المنضبط بضوابط الشرع فوائد جمَّةٍ في صناعة التأثير النافع ، وإحداث تغييرٍ فذ في واقع الناس ، و لعل من أهم هذه الفوائد ما يلي :

·   المال عاملٌ مساعدٌ في إنجاز أو تسريع أي مشروعٍ تأثيريٍ ، إذ أن كل جزئيات هذا المشروع ، ربما تحتاج إلى مالٍ كثيرٍ لتحقيقها .
     بالعِلْم والمال يبني الناسُ مُلْكَهُمُ                   لـم يبن مَلِكٌ على جهلٍ وإقـلالِ

·   اللمال لسانٌ فصيحٌ ، وسلاحٌ مؤثرٌ ، وورقةٌ رابحةٌ في حياة البشر، بالأمس واليوم وغدٍ ، وفي هذا يقول القائل :
وتقدم الأصحاب فاستمَعُوا له                   ورأيته بين الـورى مختـالاً
                لـولا دراهمه التي يزهو بها              لوجدته في الناس أسوأ حالاً

·   المال يكسو صاحبة هَيْبَةً، ويزيده تقديراً بين الناس، ويوصله لمن بيدهم القرار والتأثير ، ومن الأخطاء التي يقع فيها للأسف كثيرٌ من البشر ، إلاَّ من رحم الله ، النظر للفقراء نظرةً فيها شيءٌ من الدون ، وقلة التقدير ، ولذا يقول القائل :
يمشي الفقير وكل شيْ ضـده                والنـاس تغلق دونـه أبوابها
وتـراه ممقوتاً وليس بمذنب                  يرى العداوة ولا يرى أسبابها
ولقد أدرك اليهود أهمية المال و خطورته ، فدخلوا للعالم من هذا المفصل الرئيس ، فقادوا الأمم ، وسيطروا على كثير من الساسة في الدول الغربية ، و استطاعوا أن يؤثروا تأثيراً كبيراً في دنيا الناس ،، ورغم أن اليهود حفنةٌ قليلة في كل بلدٍ يقيمون فيه ، إلاَّ أن جميع الساسة يغازلونهم ويخطبون ودهم ، ويقدمون لهم القرابين ، ويتفننون في إرضائهم ، والتقرُّب إليهم ،، إن تقصير كثيرٍ من المصلحين ، وصناع التأثير النافع تجاه المال ، وفي المقابل اهتمام اليهود به ، يذكرني بما نطقتْ به تلك الأعرابية ، عندما عيرتها جارتها فقالت لها :
قالت لجارتهـا يـومـاً تعيرها               أقرنتِ زوجكِ إن القرن يفضحهُ
قالت أأتـركـه جسماً بلا قرنٍ                يأتيه زوجكِ ذو القرنين ينطحهُ

لذلك فإنني أتعجب ممن يريد أن يترك بصماته النافعة المرضية لله تعالى في هذه الحياة ، كيف يقع بعضهم في التطرف والغلو تجاه المال ؟ إذ تجد البعض يطلقونه طلاقاً بائناً لارجعة فيه ، و يكفرون به كفراً يخرجه من ملة العقلاء و المصلحين ،، وفي المقابل تجد البعض الآخر يكادون يعبدونه من دون الله تعالى ، ويهيمون في حبه ، ولو شققتَ عن قلوبهم أو عقولهم ، فإنك لن تجد إلاَّ درهماً وديناراً أوماركاً ودولاراً .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق