الجمعة، 7 يناير 2011

كن في الدينا كأنك غريب أو عابر سبيل

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبيّ ، فقال ( كـن فـي الدنيا كأنك غريبٌ ، أو عابرُ سبيلٍ ) ،، وكـان ابن عـمر رضي الله عنهما يقول " إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك " .
عندما نتأمل في حقيقة هذه الدنيا ، نعلم بأنها لم تكن يوماً دار إقامةٍ ، أو موطن استقرارٍ ، ولئن كان ظاهرها يوحي بنضارتها وجمالها ، إلا أن حقيقتها فانيةٌ ، ونعيمها زائلٌ ، كالزهرة النضرة التي لا تلبث أن تذبل ويذهب بريقها ،، تلك هي الدنيا التي غرّت الناس ، وألهتهم عن آخرتهم ، فاتخذوها وطناً لهم ، ومحلاً لإقامتهم ، لا تصفو فيها سعادةٌ ، ولا تدوم فيها راحةٌ ، ولا يزال الناس في غمرة الدنيا يركضون ، وخلف حطامها يلهثون ، حتى إذا جاء
أمر الله ، انكشف لهم حقيقة زيفها ، وتبين لهم بأنهم كانوا يركضون وراء وَهْمٍ لا حقيقة له ، وصدق الله العظيم حين قال { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } " سورة آل عمران 185 " ، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليترك أصحابه ، دون أن يبيّن لهم ماينبغي أن يكون عليه حال المسلم في الدنيا ، ودون أن يحذّرهم من الركون إليها ؛ فهو الرحمة المهداة ، والناصح الأمين ، فكان يتخوّلهم بالموعظة ، ويضرب لهم الأمثال ، ولذلك جاء هذا الحديث العظيم بياناً وحجةً ووصيةً خالدةً ،، لقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبيّ عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ؛ ليسترعِيَ بذلك انتباهه ، ويجمع إليه فكره ، ويشعره بأهمية ما سيقوله له ، فانسابت تلك الكلمات لروحه مباشرة ،، وانظر كيف شبّه النبي صلى الله عليه وسلم مُقام المؤمنين في الدنيا بحال الغريب ؛ فإنك لا تجد في الغريب ركوناً للأرض التي حل فيها ، أو أُنساً بأهلها ، ولكنه مُستوحشٌ من مقامه ، دائم القلق ، لم يشغل نفسه بدنيا الناس ، بل اكتفى منها بالشيء اليسير ،، لقد أوضح الحديث غربة المؤمن في هذه الدنيا ، والتي تقتضي منه التمسّك بالدين ، ولزوم الاستقامة على منهج الله تعالى ، حتى وإن فسد الناس ، أو حادوا عن الطريق ؛ فصاحب الاستقامة له هدفٌ يصبو إليه ، وسالك الطريق لايوهنه عن مواصلة المسير تخاذلُ الناس ، أو إيثارهم للدعة والراحة ، وهذه هي حقيقة الغربة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( بدأ الإسلام غريباً ، وسيعود كما بدأ غريباً ، فطوبى للغرباء ) " رواه مسلم " ،، وإذا كان المسلم سالكاً لطريق الاستقامة ، حرص على قلّة مخالطة من كان قليل الورع ، ضعيف الديانة ، فيسلم بذلك من مساويء الأخلاق الناشئة عن مجالسة بعض الناس ، كالحسد والغيبة ، وسوء الظن بالآخرين ، وغير ذلك مما جاء النهي عنه ، والتحذير منه .
إنه لايُفهم مما سبق ، بأن مخالطة الناس مذمومةٌ بالجملة ، أو أن الأصل هو اعتزال الناس ومجانبتهم ؛ فإن هذا مخالف لأصول الشريعة ، التي دعت لمخالطة الناس ، وتوثيق العلاقات بينهم ، يقول الله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } " سورة الحجرات آية 13 " ، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ ، حين كان يخالط الناس ، ولا يحتجب عنهم ، وإنما الضابط في هذه المسألة هو : أن يعتزل المرء مجالسة من يضرّه في دينه ، ويشغله عن آخرته ، بخلاف من كانت مجالسته ذكراً لله تعالى ، وتذكيراً بالآخرة ، وتوجيهاً لما ينفع في الدنيا والآخرة ،، ولنا عودةٌ مع قول النبي صلى الله عليه وسلم ( كأنك غريبٌ ، أو عابر سبيلٍ ) ، ففي هذه العبارة ترقٍّ بحال المؤمن من حال الغريب ، إلى حال عابر السبيل ، فعابر السبيل : لا يأخذ من الزاد سوى مايكفيه مؤونة الرحلة ، ويعينه على مواصلة السفر ، لا يقر له قـراراً ، ولا يشغله شيءٌ عن
مواصلة السفر ، حتى يصل لأرضه ووطنه ،، يقول الإمام داود الطائي رحمه الله " إنما الليل والنهار مراحل ، ينزلها الناس مرحلةً مرحلةً ، حتى ينتهي ذلك بهم لآخر سفرهم ، فإن استطعتَ أن تقدمَ في كل مرحلةٍ ، زاداً لما بين يديها فافعل ؛ فإن انقطاع السفر عما قريبٍ ، والأمر أعجل من ذلك ، فتزودْ لسفرك ، واقضِ ما أنت قاضٍ من أمرك " .

وأخيراً ،، إن المؤمن يكون مقبلاً على ربه بالطاعات ، صارفاً جهده ، ووقته وفكره برضا الله سبحانه وتعالى ، لا تشغله دنياه عن آخرته ، قد وطّن نفسه على الرحيل ، فاتخذ الدنيا مطيّة للآخرة ، وأعد العدّة للقاء ربه ،، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كانت الآخرة هَمهُ ، جعل الله غِناهُ في قلبه ، وجمع له شَمْلَهُ ، وأتته الدنيا وهي راغمةٌ ) " رواه الترمذي " ،، ذلك هو المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصله لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما ، فكان لهذا التوجيه النبوي الكريم أعظم الأثر في نفسه ، ويظهر ذلك جلياً في سيرته رضي الله عنه ، فإنه ماكان ليطمئنّ لالدنيا أو يركن إليها ، بل إنه كان حريصاً على اغتنام الأوقات ، كما نلمس ذلك في وصيّته الخالدة ، عندما قال رضي الله عنه " إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك " .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق